ليبيا في مهبّ العواصف الترابية وتغير المناخ
وأنذر رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي خلال كلمته بالمؤتمر في مدينة شرم الشيخ بجمهورية مصر العربية " إن ليبيا من أكثر الدول حساسية للتغيرات المناخية؛ حيث بدأ شح مياه الأمطار، وتراجعُ الموارد المائية في السنوات الأخيرة ينذر بموجات جفاف حادة، تزداد وتيرتها مع الوقت". في حين أنّ ليبيا كأحد أطراف المؤتمر لم تقدم منذ عام 2015 وحتى كتابة هذه الكلمات خطتها للمساهمة الوطنية لمواجهة التغير المناخي -وهي خطة تُبنى على سياسات الدولة في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة والتكيّف مع التغير المناخي-هي الملزمة بتقديم تحديثاتها منذ عام 2020 وفقاً لاتفاقية باريس. تغيب السياسات الوطنية التي تضع لأزمة المناخ أولوية، ورغم إنشاء لجنة وطنية للتغير المناخي عام 2021 فلا تتوفر أي معلومات عن نشاطاتها وأعمالها بعد.
حين ننظر لتأثيرات التغيّر المناخي في ليبيا نجدها حرجة وعاجلة، فهي تتنوع بين أزمة ندرة مياه، والتصحر، وموجات الحرّ السنوية، بالإضافة لملاحظات ظهرت مؤخراً عن زيادة حدة بعض الظواهر المتطرفة مثل العواصف الترابية. والعاصفة الترابية لعام 2022 كانت قد لفتت انتباه المواطنين في معظم المدن الليبية بين شهريّ مارس وأبريل. إذ تلحّفت المدن الليبية بغطاء برتقالي قاتم أعتم السماء لعدة أيام. ونُشرت عدة تحليلات من الإعلام المحلي والجهات الدولية مثل بعثة الاتحاد الأوروبي في ليبيا عن كون هذه العاصفة إحدى نتائج التغير المناخي، إذ ظهر انطباع عام -غير مبني على بيانات رسمية- بزيادة حدتها ومدتها عن الأعوام السابقة.
في الثالث عشر من أبريل 2022، حذرت ست شركات نفطية ليبية من عاصفة ترابية تمر بالبلاد، ووجهت الشركات التابعة للحقول النفطية إعلان حالة القوة القاهرة لما تسببه العاصفة من انعدام للرؤية وعرقلة لحركة السير خصوصاً في واحتيّ مرادة وجالو جنوب خليج سرت.
لم تكن هذه العاصفة الترابية هي الأولى من نوعها لعام 2022، إذ اجتاحت عاصفة ترابية منطقة شمال أفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية منتصف مارس 2022، ووصل الغبار الصحراوي إلى الجبال الأوروبية، مخلّفاً قمماً ثلجية ذهبية اللون لا بيضاء. وأشار تقرير نُشر في مارس لبرنامج كوبرنيكوس لخدمات مراقبة الغلاف الجوي
CAMS أنّ الغبار الصحراوي في الجو وفق أنظمة الرصد الإقليمية وصل لتركيزات عالية وصفها بأنها "تاريخية". أشار التقرير أنّ متوسط جسيمات الغبار PM10 وصل حتى 1700 ميكروغرام في المتر المكعب فوق إسبانيا. وهو ما دل على تدهور في جودة الهواء ومخاطر على الصحة العامة، إذ تعتبر منظمة الصحة العالمية أن التعرّض الآمن اليومي لجزيئات الغبار يجب ألا يتجاوز 45 ميكروغرام في المتر المكعب.
تركيزات الغبار الصحراوي في ليبيا بتاريخ -13 أبريل 2022 وفقاً لقياسات المركز الإقليمي للغبار في برشلونة التابع للمنظمة (WMO)
في مقابلة أجريناها لتحليل العواصف الترابية في ليبيا مع الباحث علي الدنجالي من المركز الوطني للأرصاد الجوية في طرابلس، حدثنا عن مخاطر جسيمات PM10 التي تنقلها عادة العواصف الترابية وقال محذراً "PM10 هو أصغر aerosol ( هباء جوي)، فالغبار يتكون من عدة أحجام، من الطين، الطمي، الرمال. PM10 هو أخطر شيء، لأنه يتسرب للرئة وأحياناً يتسبب في السرطان، إذ سنحتاج لارتداء الكمامة خلال العواصف الترابية".
بين الثالث عشر والسادس عشر من أبريل 2022 كانت كثافة الغبار الصحراوي على أشدّها في خليج سرت الليبي، وقد تجاوزت تركيزات الغبار فوق مدينة البريقة واجدابيا 2000 ميكروغرام في المتر المكعب، بينما تجاوزت في سرت 2500 ميكروغرام. وقد شاركت منصات محلية حينها على السوشال ميديا صور وفيديوز نقلاً عن مواطنين لتأثيرات العاصفة، ظهرت من خلاها سوء حالة الطقس وضعف الوضوح في الرؤية أثناء لسائقي السيارات. لم تتوفر حينها أي تحذيرات رسمية مسبقة لمخاطر التنقل عند قدوم العاصفة، عدا عن تنبؤات الأحوال الجوية. كما لم تتوفر بعد انتهاء العاصفة بيانات رسمية حول حجم الأضرار التي قد تكون لحقت بالمواطنين وطرق النقل والمناطق الزراعية.
تركيزات الغبار الصحراوي فوق مدينة سرت في الفترة بين16-13 أبريل 2022 وفقاً لقياسات المركز الإقليمي للغبار في برشلونة التابع للمنظمة (WMO)
نشأة العواصف الرملية/الترابية
تعتبر العواصف الترابية -أو كما يطلق عليه محلياً "العجاج"- من ظواهر الطقس الموسمية لفصل الربيع التي تمر على ليبيا. ويتميز شهر أبريل بكونه الموسم الذي تكثر فيه العواصف الترابية التي تتسبب غالباً بمعوّقات اقتصادية واجتماعية وصحية وفق شدتها ومدة بقاءها. ابتداءً من تعطيل حركة الطيران وتأجيل الرحلات، وتشتت الرؤية وعرقلة المرور والتسبب بحوادث، وإلى الخسائر المادية والزراعية والصحية خصوصاً لمن يعانون من أمراض الجهاز التنفسي.
العواصف الرملية والترابية هي من بين ظواهر الطقس المتطرفة الرئيسية التي تؤثر على المناخ الليبي، بالإضافة لموجات الحر والسيول الفجائية والضباب. ومن الأسباب الرئيسية لتكوّنها اتحاد الرياح الموسمية القوية مع الأسطح الجافة المكشوفة وتصاعد الغبار الصحراوي. ترفع العواصف الترابية جزيئات الغبار من الأرض لكيلومترات عالياً نحو الغطاء الجوّي، وتصل عبر الريح خلال أحزمة طويلة من انبعاثات الغبار حتى دول وقارات أخرى. ويحلّق غبار الصحراء الكبرى سنوياً ويصل حتى الكاريبي في رحلة لعدة أيام تحمل في جعبتها ما يقارب 60مليون طن من جسيمات الغبار.
وفقاً لتقرير للبنك الدولي لعام 2019 عن العواصف الترابية والرملية، فإنه يوجد ثلاث أنواع من مصادر غبار العواصف، وهي إما تلك المتكوّنة بفعل الملامح المائية، أو الطبيعية الناشئة عن مساحات الأراضي الجافة، أو الناتجة بفعل نشاطات بشرية مثل سوء استخدام واستغلال الأراضي. وتصدر منطقة شمال أفريقيا 55% من انبعاثات الغبار عالمياً، ومع كون الصحراء الكبرى أكبر مصدر للغبار حول العالم غير أنّ النشاطات البشرية تساهم بنسبة 8% فقط من إنتاجه.
"بالنسبة (للعواصف) الترابية هي ذاتها الغبارية، أما الرملية فهي التي تحرك الكثبان الرملية، ويمكن ملاحظتها أثناء الريح القبلي (الجنوبية) أو الشمالية وتتواجد في الصحراء بشكل أكبر. أما العواصف الرملية عادة تكون محلية، ولا تنتقل العاصفة الرملية من منطقة لمنطقة. ما يختلف عن الغبارية (الترابية)، أنها تنتقل وتتحرك ويصل غبارها لعند أمريكيا وحتى الدول الاسكندنافية، ومؤخراً تابعنا لإيطاليا." يقول الدنجالي.
التغير المناخي وأثره على شدة العواصف الترابية
تتنبأ دراسة لمجلة البحوث الجيوفيزيائية للاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي إلى أنّ التغيّر المناخي سيتسبب في انخفاض تكرار أحداث الغبار الصحراوي، ولكن في ذات الوقت سيزيد من شدّتها خلال السنوات القادمة. وتشير تسجيلات غبار الصحراء الكبرى في الدراسة إلى أنّ القرن الماضي شهد زيادة في كمية نقل الغبار الصحراوي مقارنة بحوادث كبيرة على مدى 2000 سنة ماضية. تؤرخ هذه الدراسة سجل لغبار الصحراء الكبرى لألفيّ عام مضت باستخدام التحليل الكيميائي لعينات من جليد جبال الألب السويسرية الإيطالية. وتُظهر سجلات الدراسة أنّ زيادة نقل الغبار الصحراوي تعود لمزيج بين أنظمة الضغط العالي المعززة فوق البحر الأبيض المتوسط، والظروف الأكثر جفافاً في شمال أفريقيا.
تستنج دراسة مجلة البحوث الجيوفيزيائية الصادرة عام 2019 إلى أنّ حالات الجفاف الشديد الناتجة عن انخفاض هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة في شمال أفريقيا ستؤدي إلى زيادة توافر الغبار وتقليل جودة الهواء في المناطق السكنية في مسارات نقل الغبار الصحراوي بالمنطقة. في المقابل، يشير بحث لوكالة ناسا الفضائية بالتعاون مع وكالة الفضاء الفرنسية إلى احتمالية أن يقل نشاط الغبار الصحراوي للسنوات العشرين إلى الخمسين القادمة كنتيجة لتغيّر المناخ وأثره على سرعة الرياح. تبقى هذه الاحتمالات من حيث زيادة أو نقص نشاط العواصف الرملية والترابية معتمدة على مدى رطوبة وجفاف المنطقة وفقاً لتغيّرات المناخ، فلم تُظهر الأبحاث المستندة على أدلة بعد اتجاهات واضحة لنشاط العواصف الترابية مستقبلاً.
في تقرير آخر نُشر لبرنامج كوبرنيكوس لخدمات مراقبة الغلاف الجوي CAMS وضّح أن ظروف الجفاف والتصحر المرتبطة بالاحترار العالمي يمكن أن تؤدي لزيادة كميات الغبار المتاحة، بالإضافة للاستخدام غير المستدام للمياه والأراضي. ويؤكد الأستاذ علي الدنجالي أنّ العوامل المحلية لها دور في تسريع التصحر وزيادة كميات الغبار الصحراوي ويلخصها في "الاستخدام الخاطئ للأراضي وقطع الأشجار والاستعمال الجائر للمياه والرعي الجائر".
نشر الباحث الدنجالي نشر تقريراً عام 2015 بالتعاون مع المنظمة العالمية للأرصاد عن التوزيع المكاني والتواتر والموسمية للعواصف الترابية والرملية في ليبيا كان من نتائجه أنّ سوء استخدام واستغلال الأراضي في ليبيا يؤدي لتآكل التربة وتصحر الأراضي، وأنّ الأراضي الجافة المتأثرة بالنشاط البشري تساهم في اضطراب غطاء التربة بما يجعلها معرضة لأن تصبح منطقة مصدرة للغبار.
رصد مفقود وبيانات ضائعة
يتم تتبع وتوصيف نشاط العواصف الترابية بعدة طرق قياس يتم فيها دمج كل من صور الأقمار الصناعية مع ملاحظات التقييم الأرضية والنمذجة العددية. وبهذه الطرق يمكننا تقدير تركيزات الغبار وشدة العاصفة ومدتها ومدى اختلافها خلال السنوات، وأيضاً توقع نشاطها للسنوات القادمة ومدى تأثره بالتغير المناخي. غياب آليات الرصد والقياس للعواصف الترابية في ليبيا هو إحدى المشاكل التي تواجه المختصين المحليين.
"لا تتوفر أجهزة لقياس ورصد العواصف الرملية في ليبيا، إذ يتم الاعتماد على أنظمة الرصد الإقليمية أو عبر وسائل تقليدية بما لا يوفر بيانات رقمية ويمنح نسبة شك عالية في نتائجها." يحدثنا الدنجالي عن طرق القياس الحالية لمركز الأرصاد الجوية، إذ تتوفر بالمركز فقط الآلية التقليدية وهي الرؤية الأفقية، أما فيما يتعلّق بأجهزة القياس والرصد -وبالتالي التوثيق الرقمي للعواصف الترابية- في ليبيا فهي غير متوفرة.
غياب آليات الرصد والقياس لنشاط العواصف الترابية يطرح تساؤلات حول مدى استعداد الدولة الليبية لمواسم جديدة من غبار الصحراء في السنوات القادمة، في الوقت الذي تعاني فيه البيئة المحلية من الجفاف وندرة المياه وغياب سياسات التكيف مع آثار أزمة تغيّر المناخ. يصبح وضع احتياجات المركز الوطني للأرصاد الجوية في مقدمة الحلول لسد الفجوة في تغطية البيانات المحلية. وهو ما يوصي به تقرير المنظمة العالمية للأرصاد عن ليبيا، الذي أكد على أهمية توفير معلومات الطقس لدعم صانعي السياسات في تصميم خطط العمل لمكافحة التصحر، والتخفيف من آثار تغير المناخ وتحسين إدارة الموارد الطبيعية. وذلك من خلال تنفيذ شبكة رصد أرضية للغبار الجوي لتحقيق القياسات المطلوبة ووضع تحليل دقيق لمتطلبات الرصد المحلية وبناء قدرات الموظفين لتشغيل وصيانة محطات الرصد.
التصدي لغبار الصحراء
آثار الغبار الصحراوي على الصحة العامة والبيئة المحلية والاقتصاد لا يمكن تجاهلها، ولوجود مؤشرات لزيادة حدتها وارتباطها بالتغير المناخي فالتصدي لآثارها بالسنوات القادمة يجب أن يكون من أولويات الحكومة الليبية. وفي غياب سياسات التكيف ومواجهة التغير المناخي يكون البدء في وضع هذه السياسات التي تراعي الظواهر المتطرفة ملحاً.
للتصدي لآثار العواصف الترابية توصي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر بوضع استراتيجيات تجمع بين تخفيف الآثار وتخفيف المصادر. ويشير تخفيف الآثار إلى الاستراتيجيات المبنية على أنشطة مثل تثقيف السكان بالآثار وخصوصاً الفئات الأكثر ضرراً، تقييم المخاطر، الإنذار المبكر، خطط الاستجابة للطوارئ وخطط مواجهة المخاطر والحد منها. أما تخفيف المصادر فهي الأنشطة القائمة على الإدارة المستدامة والمتكاملة للأراضي، المسطحات المائية والمياه.
بناء أنظمة الإنذار المبكر هو أحد الاستراتيجيات المهمة لتقليل الآثار الاقتصادية والصحية، فهو يسمح -قبل وخلال العواصف الترابية- بتقليل حوادث تعطل الطرق ورحلات الطيران، كما يساعد المزارعين لحماية محاصيلهم بشكل أبكر. ويعتبر التنبؤ بالعواصف الترابية آلية مهمة لكونها تسمح على سبيل المثال بنشر التوعية للمصابين بأمراض الجهاز التنفسي بأخذ الاحتياطات اللازمة
بالإضافة لذلك، فإن تقليل عوامل التعرية التي تتعرض لها معظم المناطق في ليبيا يساهم في تقليل آثار العواصف الترابية، وذلك بالحفاظ على الغطاء النباتي لتقليل الجفاف وتفكك التربة، كما تحد ممارسات الإدارة المستدامة للمياه بشكل كبير من شدة العواصف. في الدول التي تتعرض بشكل موسمي للعواصف الترابية يتم العمل على مشاريع لبناء مصدات للرياح، وهي حواجز نباتية طبيعية تعمل على صد الرياح وحماية السكان والمناطق الهشة. ويشير تقرير الدنجالي بالتعاون مع المنظمة العالمية للأرصاد إلى الفرص التي يوفرها غرس الأشجار والشجيرات ومشاريع تثبيت التربة الرملية لمكافحة حركة الرمال والتصحر.
تكمن الخطوة الأولى لوضع الحلول لمواجهة آثار العواصف الترابية مستقبلاً في الإرادة السياسية بأن نبدأ اليوم والآن في مواجهة تحديات التغير المناخي، وذلك برفع مستوى الطموح للتكيف مع تأثيرات التغير المناخي بأن تلتزم ليبيا بوضع خطة المساهمة المحددة وطنياً للعمل المناخي وتفعيل عمل اللجنة الوطنية لتغيّر المناخ.